هل نحن في البدايات الأولى لعصر الروبوتات حيث ستسود هذه الآلات في زمن قد لا يكون بعيدا، وتستولي على وظائف ومهام البشر وتلقي بمئات الملايين منهم إلى هاوية البطالة؟ ربما.
يقول الأميركي مارتن فورد مؤلف كتاب “حكم الروبوتات” إن الروبوتات “لن تغير بعض الأشياء أو كثيرا من الأشياء في حياتنا، بل ستغير كل شيء بالمعنى الحرفي للكلمة” ويؤكد الكاتب أن “الثورة الحقيقية لم تأت بعد، فما زلنا في إرهاصاتها الأولى فقط”.
وقد لا يكون هذا بعيدا عن الحقيقة، فقد بدأت الروبوتات مسيرتها كأدوات متواضعة تعمل على مساعدة البشر في أداء بعض المهام البسيطة أو المتكررة على نطاق واسع، أو العمل في ظروف خطرة قد تشكل تهديدا لحياة البشر.
أما الآن ومع التطورات الأخيرة في التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي وعلم الخوارزميات، فإن الأمر تعدى ذلك بكثير، حيث أصبحت الروبوتات تملك القدرة على التعلم وأداء أنشطة ومهام ووظائف كثيرة ومعقدة كانت حكرا على البشر على مر الزمن.
نمو كبير ومتسارع
وفي هذا السياق، من المتوقع أن تنمو صناعة الروبوتات بشكل كبير خلال السنوات القادمة، وتشير التقديرات إلى أن هذا القطاع قد تصل قيمته إلى 260 مليار دولار بحلول عام 2030، كما ذكرت منصة “فيوتشر ليرن” (future learn) مؤخرا.
العام الماضي، بلغ العدد الإجمالي للوحدات الروبوتية 12 مليون وحدة في جميع أنحاء العالم، كما لوحظ ارتفاع كبير بنسبة وصلت إلى 12% في شحنات الروبوتات من عام 2020 إلى 2022 في جميع أنحاء العالم.
ونجحت صناعة الروبوتات في توظيف أكثر من 150 ألف عامل ماهر على المستوى الدولي، وتخطط 88% من الصناعات للتحول إلى الأتمتة الآلية في كل جوانب البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات الخاصة بهم، وفق ما ذكرت منصة “إنتر برايز إنجينيرينغ سوليوشن” (enterprise engineering solutions) مؤخرا.
آلية جديدة لمقارنة القدرات البشرية والروبوتية
التحول قد بدأ فعلا، والخطر حقيقي وموجود ويهدد وظائف الملايين من البشر في العالم، وفي الحقيقة عندما نفكر في الروبوتات، فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا: هل ستحل هذه الروبوتات مكاننا في أدوارنا الوظيفية؟ مهما كانت الإجابة، فإن السؤال الثاني يكاد يكون مؤكدا: كيف يمكنني التأكد من أن وظيفتي ليست مهددة؟
أصدر فريق من الباحثين من جامعة لوزان السويسرية بحثا علميا يقدم إجابة تفصيلية عن هذين السؤالين، حيث ابتكروا طريقة لتقييم أي من المهام والوظائف الموجودة بالفعل من المرجح أن تقوم بها الآلات السنوات القادمة من خلال دراسة القدرات الروبوتية مع معلومات التوظيف والدخل، وقدرة البشر على الابتكار والمنافسة.
التحول الوظيفي
كما طور الباحثون أيضا آلية لـ “التحول الوظيفي” لنقل الموظفين والعمال المهددين إلى مهن أخرى تحتاج إلى قدر أقل من إعادة التأهيل والتدريب، كما ذكرت منصة “أناليتكس إنسايت” (Analytics Insight) التي نقلت أهم ما ورد في البحث.
ويقول البروفيسور داريو فلوريانو مدير “مختبر النظام الذكي” (Laboratory of Intelligent System) في الجامعة “تم إجراء العديد من الدراسات في السابق لتقدير عدد المهن التي سيتم تشغيلها بواسطة الروبوتات، ولكنها جميعا كانت تسلط الضوء على روبوتات البرامج مثل التعرف على الصوت والصورة، الدردشة، الاستشارة المالية، وغيرها الكثير.
ويضيف: من جانبنا فقد أخذنا بعين الاعتبار في دراستنا ليس فقط تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ولكن أيضا الروبوتات الذكية الحقيقية التي تنفذ المهام الجسدية، وابتكرنا آلية لمقارنة القدرات البشرية والروبوتية في الكثير من المهن.
والجديد في هذه الدراسة هو نمذجة جديدة لقدرات الروبوتات لتلبية احتياجات العمل، وفي هذا الاتجاه درس فريق العمل “خارطة الطريق الأوروبية الروبوتية” H2020 Robotic Multi-Annual Roadmap (MAR)) وهي وثيقة سياسة المفوضية الأوروبية تتم مراجعتها باستمرار من قبل متخصصي الروبوتات، حيث تغطي العشرات من المهارات اللازمة للروبوتات الحالية أو تلك التي قد تكون مطلوبة في المستقبل، مرتبة في فئات مختلفة مثل: التلاعب، الرؤية، الاستشعار، التفاعل البشري.
واستخدم الباحثون مقياسا معروفا لتحديد درجة التقدم التقني أو ما يعرف باسم “مستوى الاستعداد التكنولوجي” “تي آر إل” (TRL) لمراجعة المنشورات البحثية وبراءات الاختراع ومواصفات المنتج لتقدير مستوى التطور في المهارات الروبوتية.
كما اعتمدوا على كتالوج “أُنتون لاين” (ontonline) للقدرات البشرية، وهو مجموعة مصادر مستخدمة على نطاق واسع في سوق العمل بالولايات المتحدة والتي تصنف حوالي ألف وظيفة، وتحدد المواهب والقدرات المطلوبة لكل منها.
وعن طريق هذه الوسائل أصبح بإمكان العلماء تحديد المهام والوظائف التي تستطيع الروبوتات القيام بها، أو تلك التي يفضل استخدام البشر فيها، عن طريق مقارنة القدرات البشرية المستقاة من قاعدة البيانات التي بناها الفريق بالقدرات الروبوتية الموجودة في وثيقة المفوضية الأوروبية سالفة الذكر.
ولنفترض مثلا أن هناك مهمة أو وظيفة تحتاج إلى من يعمل بدقة متناهية على مستوى الملليمتر، هنا، فإن القاعدة ستخبرك أنه يفضل إيلاء هذه المهمة إلى روبوت بدلا من إنسان حيث تتفوق الروبوتات في هذا الأمر، أي أن مستوى الاستعداد التكنولوجي “تي آر إل” للروبوتات أفضل وأكثر قدرة من البشر، أما إذا كانت هناك مهمة أو وظيفة أخرى لا تحتاج لهذا القدر من الدقة، أو تحتاج للتفكير والإبداع لتنفيذها فهنا تخبرك قاعدة البيانات أنه يفضل إعطاء هذه الوظيفة للبشر للقيام بها.
كيف نقاوم الأتمتة؟
ونتيجة لذلك، تم تصنيف ألف وظيفة، حيث يواجه “الفيزيائيون” أدنى خطر في أن يتم الاستعاضة عنهم بالروبوتات، بينما يواجه “الجزارون وعمال تغليف اللحوم” أسوأ المخاطر. وبشكل عام تميل الوظائف في قطاعات الأغذية والبناء والتشغيل والصناعة إلى أن تكون الأكثر خطورة حيث تستطيع الروبوتات القيام بها أفضل من البشر.
وقال البروفيسور رافائيل لاليف “إن القضية الأكثر إلحاحا التي تواجه الحضارة الآن هي كيف تصبح أكثر مقاومة للأتمتة”. ويقدم البحث توصيات مهنية شاملة للأشخاص المعرضين لخطر كبير في أن تستولي الآلات على وظائفهم مما يسمح لهم بالانتقال إلى وظائف أكثر أمانا مع إعادة تأهيل العديد من كفاءاتهم السابقة، ومن المفترض أن تساعد الحكومات المجتمعات في أن تصبح أكثر مقاومة للأتمتة باتباع هذه النهج.
ولقد ابتكر العلماء بعد ذلك طريقة لتحديد الوظائف البديلة للوظائف المهددة والتي تشبه في طبيعتها الوظيفة السابقة، ولكنها تحتاج لمهارات لا تعتمد كثيرا على الأتمتة، وذلك بهدف إعادة الهيكلة وتخفيف الخطر إلى الحد الأدنى. ولمعرفة كيف ستعمل هذه التقنية في الممارسة العملية، استخدموا بيانات من القوى العاملة الأميركية، وصمموا آلاف التغييرات المهنية بناءً على خوارزمية معينة تم استخدامها لهذا الغرض بهدف السماح للعمال والموظفين الذين يعملون في مهن ووظائف مهددة للانتقال لوظائف أخرى متوسطة الخطورة، وغير مهددة بشكل مباشر أو آني، وهو ما يضمن إعادة توزيع أكثر عدالة للوظائف بين البشر والروبوتات في المستقبل بناء على قدرات وإمكانيات كل من الطرفين.
وبعد، فإن الروبوتات صارت حقيقة واقعة، وسيزداد الاعتماد عليها أكثر فأكثر يوما بعد يوم، وعلينا نحن البشر أن نتأقلم مع هذا التغير، ولا خوف على البشرية هنا، فقد اعتاد الإنسان على العيش والتأقلم مع شتى الظروف والمتغيرات على مر العصور، ولن يكون الزمن الروبوتي استثناء عن هذه القاعدة.